في النوع الثاني من تلاوة القرآن
في النوع الثاني من تلاوة القرآن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله
من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه
ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد ... فإن خير
الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة
ضلالة وكل ضلالة في النار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ ) (آل
عمران102)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب 71)
وبعد:ـ أيها الأخوة الأعزاء
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
سبق في المجلس الخامس أن تلاوة القرآن على نوعين : تلاوة
لفظه وهي قراءته ، وتقدم الكلام عليها هناك .
والنوع الثاني : تلاوة حكمه بتصديق أخباره واتباع أحكامه
فعلا للمأمورات وتركا للمنهيات .
وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن كما قال تعالى
: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] ، ولهذا درج السلف الصالح رضي الله عنهم على ذلك يتعلَّمون القرآن ، ويصدِّقون
به ، ويطبِّقون أحكامه تطبيقا إيجابيا عن عقيدة راسخة , قال أبو عبد الرحمن السلمي
رحمه الله : حدثنا الذين كانوا يُقْرِئُوننا القرآن : عثمان بن عفان وعبد الله بن
مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها
حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل , قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا
.
وهذا النوع من التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة
, قال الله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }{ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا
}{ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسَى }{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ
وَأَبْقَى } [ طه : 123 - 127 ] ، فبَيَّنَ الله في هذه الآيات الكريمة ثواب المتَّبِعين لهداه الذي أوحاه
إلى رسله ، وأعظمه هذا القرآن العظيم ، وبيَّن عقاب المعرضين عنه .
أما ثواب المتبعين له فلا يضلون ولا يشقون ، ونَفْيُ الضلال
والشقاء عنهم يتضمن كمال الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة .
وأما عقاب المعرضين عنه المتكبِّرين عن العمل به ، فهو
الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة ، فإن له معيشة ضنكا ، فهو في دنياه في هم وقلق
نفس ، ليس له عقيدة صحيحة ، ولا عمل صالح { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
} [ الأعراف : 179 ] ، وهو في قبره في ضيق
وضنك ، قد ضُيِّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، وهو في حشره أعمى لا يبصر { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ
عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا
} [ الإسراء : 97 ] ، فهم لما عموا في الدنيا
عن رؤية الحق وصموا عن سماعه وأمسكوا عن النطق به { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا
وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 5 ] ، جازاهم الله في الآخرة
بمثل ما كانوا عليه في الدنيا ، وأضاعهم كما أضاعوا شريعته { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيرًا }{ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ طه : 125 - 126 ] ، { جَزَاءً وِفَاقًا } [ النبأ : 26 ] ، { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ
إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ القصص : 84 ] ، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه : ( أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة - وفي لفظ : صلاة الغداة - أقبل علينا بوجهه
فقال : " من رأى منكم الليلة رؤية ؟ " قال : فإن رأى أحد قَصَّها . فيقول : " ما شاء الله
" . فسألنا يوما فقال : " هل رأى أحد منكم رؤية ؟ " قلنا : لا . قال : " لكني رأيت الليلة رجلين
أتياني " ( فساق الحديث وفيه : ) " فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع ، وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي
بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيَتَدَهْدَه الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع
إلى الرجل حتى يصبح رأسُه كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى ، فقلت : سبحان الله ! ما هذا ؟ فقالا لي : انطلِق " ( فذكر الحديث وفيه : ) " أما
الرجل الذي أتيت عليه
يُثْلغ رأسُه بالحجر فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام
عن الصلاة المكتوبة ) (رواه البخاري) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع
فقال : ( إن الشيطان قد يئس أن يُعْبَد في أرضكم ولكن
رضي أن يُطَاع فيما سوى ذلك مما تَحاقرون من أعمالكم فاحذروا ، إني تركت فيكم ما
إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدا : كتاب الله وسنة نبيه ) (رواه الحاكم وقال :
صحيح الإسناد ، وقد روى الإمام أحمد نحو الجملة الأولى منه من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه .) ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يُمَثَّل القرآن يوم القيامة رجلا فيُؤْتَى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيُمَثَّل
له خصما فيقول : يا رب حَمَّلته إياي فبئس الحامل تعدَّى حدودي ، وضيع فرائضي , وركب
معصيتي , وترك طاعتي , فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال : شأنك به , فيأخذه بيده
فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ) (ضعيف ونقل عن الحافظ ابن حجر تحسينه ، فإن ثبت أنه حسن فالممثل قراءة القارئ
أو جزاؤها وهما مخلوقان ، أو يقال : إن التمثيل يقتضي أن الممثل به غير الممثل فلا
يستلزم أن يخلق القرآن .) ، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( القرآن حجة لك أو عليك ) (رواه مسلم) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : القرآن شافع مُشفَّع
، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار (وقد رُوِيَ عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم)
.
فيا من كان القرآن خصمه كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة
؟ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه يوم تربح البضاعة . عباد الله هذا كتاب الله يُتْلَى بين
أيديكم ويُسمع ، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع ، ومع هذا فلا
أذن تسمع ، ولا عين تدمع ، ولا قلب يخشع ، ولا امتثال للقرآن فيُرْجَى به أن يَشْفَع
، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع ، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا
تسمع ، كم تُتْلَى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة ، وكم يتوالى
علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة ، لا الشباب منا ينتهي عن الصبوة ، ولا
الشيخ ينتهي عن القبيح فيلحق بأهل الصفوة ، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا
الدعوة ، وإذا تُلِيَتْ عليهم آياته وجلت قلوبهم وجَلتْها جَلْوَة ؟ أولئك قوم أنعم
الله عليهم فعرفوا حقه فاختاروا الصفوة .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ينبغي لقارئ القرآن أن يُعْرَف بليله إذ الناس ينامون , وبنهاره إذ الناس
يُفْطِرون , وببكائه إذ الناس يضحكون , وبورعه إذ الناس يخلطون ، وبصمته إذ الناس
يخوضون , وبخشوعه إذ الناس يختالون , وبحزنه إذ الناس يفرحون .
يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... وأبصروا الحق وقلبي قد
عَمِي
يا حسنهم والليل قد أَجَنَّهُمْ ... ونورهم يفوق نور الأنجمِ
تَرَنَّمُوا بالذكر في ليلهمو ... فعيشهم قد طاب بالتَّرَنُّمِ
قلوبهم للذكر قد تفَرَّغَتْ ... دموعهم كلؤلؤ منتظمِ
أسحارهم بنورهم قد أشرقت ... وخِلَعُ الغفران خير القِسَمِ
قد حفظوا صيامهم من لغوهم ... وخشعوا في الليل في ذكرهِمِ
ويحكِ يا نفس ألا تَيَقَّظِي ... للنفع قبل أن تَزِلَّ
قدمي
مضى الزمان في تَوَانٍ وهَوًى ... فاستدركي ما قد بَقِي
واغتنمي
إخواني : احفظوا القرآن قبل فوات الإمكان ، وحافظوا على
حدوده من التفريط والعصيان ، واعلموا أنه شاهد لكم أو عليكم عند الملك الديان .
ليس مِنْ شكر نعمة الله بإنزاله أن نتخذه وراءنا ظهريا
، وليس من تعظيم حرمات الله أن تتخذ أحكامه سخريا ، { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ
مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا }{ يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي
لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا }{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا }{ وَقَالَ الرَّسُولُ
يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [ الفرقان : 27 - 31 ] .
اللهم ارزقنا
تلاوة كتابك حق التلاوة ، واجعلنا ممن نال به الفلاح والسعادة ، اللهم ارزقنا إقامة
لفظه ومعناه ، وحفظ حدوده ورعاية حرمته ، اللهم اجعلنا من الراسخين في العلم ، المؤمنين
بمحكمه ومتشابهه ، تصديقا بأخباره وتنفيذا لأحكامه ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع
المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين .
|
تعليقات
إرسال تعليق