الجزء الثاني الهجرة
الجزء الثاني الهجرة
خطبة
عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله
نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا
ومن سيئات
أعمالنا إنه من يهده الله
فلا مضل له
ومن يضلل فلا
هادى له
وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له ،
له
المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ،
(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ
اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ
تَرَوْهَا
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ
الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(التوبة : 40)
وأشهد أن
سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا
محمدا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
الذي
قال لعمه أبي طالب
( يا
عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا
الأمر
ـ
حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته )
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب56)
بلغ العلا بكماله كشف الدجى بجماله عظمت جميع خصاله
صلوا عليه وآله
اللهم صل على سيدنا محمد في الأولين وصل عليه في الآخرين
وصل عليه في كل وقت وحين صل اللهم وسلم وبارك عليه
وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم
الدين
وارحم اللهم مشايخنا وعلمائنا ووالدينا وأمواتنا وأموات المسلمين
أجمعين
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
)
()آل عمران102
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
(الأحزاب
71)
وبعد:ـ أيها
الأخوة الأعزاء
في الطريق إلى المدينة
وحين خمدت نار الطلب، بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة. وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان ـ ماهرًا بالطريق ـ و بعد ثلاث ليال جاءهما بالراحلتين، وكان قد قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم عند مشاورته في البيت: بأبي أنت يا رسول الله ، خذ إحدى راحلتي هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن.
أنظر كيف يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب حق حقه كان من الممكن أن يعتبرها هدية
فلم يكن مثل هؤلاء الذين ينتهزون الفرص ويأخذون الأشياء
بسيف الحياء
وهو الذي يقول
( من أخذ
أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه
ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه
الله )
(عن أبي هريرة رضي الله عنه
رواه البخاري وابن ماجه وغيرهما)
ثم ماذا بعد ما انطلقا إلى غار ثور
أتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما،
ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام،
فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت:( ذات النطاقين)
وبعد ثلاثة أيام في غار ثور ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فُهَيْرة، هؤلاء رجال لم يقل أحد منهم (أنا مالي)
فمنذ أن قيلت هذه الكلمة ونحن إلى الوراء (نسأل الله السلامة)
و لما خرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، نظر إلى مكة نظرة
الحزين على فراقها، وهو يقول: (والذي نفسي بيده إنك من
أحب أرض الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت) (صحيح، أخرجه
أحمد)
وأخذ بهم الدليل
ـ عبد الله بن أريقط ـ على طريق السواحل.
وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا. ، ثم قدم بهما على قُباء. وإليكم أيها الأخوة الأعزاء بعض ما وقع في الطريق روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، فسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانًا بيدي، ينام عليه، وقلت: نم يا رسول الله ، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فحلب في إداوة (وعاء)وحملها للنبي صلى الله عليه وسلم يشرب ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله ، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن للرحيل؟ قلت: بلى، قال: فارتحلنا. وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبى صلى الله عليه وسلم، وكان شيخًا يعرف، ونبى الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهدينى الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير. وفي اليوم الثالث مر بخيمتي أم مَعْبَد الخزاعية، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. فقال: أتأذنين لى أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْ عليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا. فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا(يتمايلن من الضعف)، فلما رأي اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال: أني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، فقال صِفِيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفاته الكريمة وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ
قالت أم معبد هو ظاهر الوَضَاءة (الحُسْنُ والنَّظافَةُ)،
أبْلَجُ الوجه(وضوح ونَقاوَةُ ما بينَ الحاجِبَيْنِ.)،
حسن
الخُلُق(والتَّامُّ الحَسَنُ)، لم تعبه ثُجْلَة(أي أنه ليس نحيلا.)،
ولم
تُزْرِ به صَعْلَة(ليس فيه طول زائد)،
وسِيم قَسِيم(كامل الهيئة
أي صار الحسن له سمة)،
في
عينيه دَعَج (شديد سواد العين في شدة بياضها)،
وفي أشفاره وَطَف(الشعر النابت على الجفن فيه طول)،
وفي
صوته صَهَل(كالبحة وهو ألا يكون حاد الصوت.)،
وفي عنقه سَطَع (قوي العنق فيه بريق فضة)،
أحْوَر(دقيق شعر الحاجبين مع طولهما)، أكْحَل(التي مَكحولَةٌ وان لم تُكْحَلْ)،
أزَجّ(دِقَّةُ الحاجِبينِ في طُولٍ،)، أقْرَن( واسع الحاجِبَيْنِ
مقرون الحاجبين)،
شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه
البَهَاء،
أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق،
فَضْل،
لا
نَزْر ولا هَذَر(أي: ليسَ بِقَليلٍ فَيَدُلُّ على عِيٍّ، ولا بكثيرٍ
فاسِدٍ)،
كأن
منطقه خَرَزَات نظمن يَتَحدَّرن، رَبْعَة(بعيد ما بين المنكبين
)،
لا
تقحمه عين من قِصَر، ولا تشنؤه من طول، غُصْن بين غُصْنَيْن،
فهو
أنْظَر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدْرًا، له رفقاء(أصحاب) يحفون
به،
إذا
قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، مَحْفُود(مَخْدومٌ)،
مَحْشُود(مُطاعٌ يَخِفُّونَ لِخِدْمَتِهِ)، لا
عَابِس(الذي لا يَنْتَهِرُ الناسَ)،
ولا
مُفَنَّد( لايخَطَّأَ رَأْيَهُ،).
ـ فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من
أمره ما ذكروا،
لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك
سبيلا.
وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعونه ولا يرون
القائل:
جزى الله رب العرش خير جزائه ** رفيقين حَلاَّ خيمــتى أم
مَعْبَــدِ
هـمـا نزلا بالبِـــرِّ وارتحلا به ** وأفلح من أمسى رفيق محمــد فيا لقُصَىّ مــا زَوَى الله عنكــم ** به من فعال لا يُحَاذى وسُــؤْدُد لِيَهْنِ بني كعـب مكــان فَتاتِهــم ** ومقعدُهـا للمؤمنـين بَمْرصَـد سَلُوا أختكم عن شاتهـا وإنائهـا ** فإنكم إن تسألوا الشـاة تَشْـهَـــد
قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل
من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه حتى
خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.
سُرَاقة بن مالك. قال سراقة: بينما أنا جالس ، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، أني رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا،( يريد أن يضلله ليذهب هو) ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي، وهي من وراء البيت، فركبتها، حتى دنوت منهم، فعَثَرَتْ بي فرسي فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضُرُّهُمْ أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي ـ وعصيت الأزلام ـ تُقَرّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ـ سَاخَتْ يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تَكَدْ تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يَرْزَأني، ولم يسألاني إلا أن قال: أَخْفِ عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمْنٍ، فأمر عامر بن فُهَيْرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ها هنا. وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما. ولما رأت قريش قد تغير كلامه
خاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سبباً لإسلام بعض أهل مكة،
وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم:
بني مدلج إني أخاف سفيهكم سراقة مستغوٍ لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم فيصبح شتى بعد عز وسؤدد فقال سراقة يرد على أبي جهل: أبا حكم والله لو كنتَ شاهداً لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تَشْكُك بأن محمداً رسول وبرهان فمن ذا يقاومه عليك فكُف القوم عنه فإنني أرى أمره يوماً ستبدو معالمه بأمر تود الناس فيه بأسرهم بأن جميع الناس طُراً مسالمه وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمى ومعه نحو ثمانين بيتًا، فأسلم وأسلموا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد. وعن عبد الله بن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير، فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أسلم، فقال: لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: مِنْ بني مَنْ؟ قال: من بني سهم. قال: خرج سهمك وفي الطريق ـ في بطن رِئْم ـ لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب من المسلمين، كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بياضًا.
النزول بقباء
وفي يوم الاثنين من ربيع الأول نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أَوْفي رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون،
(انظر إلى الأعداء كيف
يجعلهم الله خدم للمسلمين عندما يكون المسلمون على تقوى من ربهم فهذا اليهودي ينادي
على ما كان ينتظره المسلمون وهذا أبو جهل لا يقرب الغار ولا ينظر فيه على رغم طلبهم
وترك الغار ومضى)
قال اليهودي بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي
تنتظرون،
فثار المسلمون إلى السلاح. وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظهر
الحرة.
قال ابن القيم: وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحى ينزل عليه:(فَإِنَّ الله َ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم:4) قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحي ـ وفي نسخة: يجيء ـ أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء . وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، وقيل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول مسجد ثم سار نحو المدينة وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادى، وكانوا مائة رجل.
الدخول في المدينة ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة ـ ومن ذلك
اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة
مختصرًا ـ وكان يومًا مشهودًا أغر، فقد ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح،
وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور:
طـلـع الـبــدر علـينا **مـن ثـنيــات الـوداع
وجـب الشـكـر علـينا ** مـــا دعــا لـلـه داع أيـهـا المبـعـوث فـينا ** جـئـت بـالأمـر المطاع
وتمنى كل واحد منهم أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم
عليه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد
والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة،
فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى
نهضت وسارت قليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني
النجار ـ أخواله صلى الله عليه وسلم ـ وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل
على أخواله، يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في
النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحـله، فأدخله بيته،فجعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: المرء مع رحله،
وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته، فكانت عنــده.
(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ)()النور31
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً
صلى
الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله
أما
بعد
قالت عائشة: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله وقالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت:
يا أبه كيف
تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحُمَّى
يقول:
كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ** والموت أدنى من شِرَاك
نَعْلِه
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته
ويقول:
ألا ليت شِعْرِى هل أبيتَنَّ ليلة ** بـوَادٍ وحـولى
إذْخِرٌ وجَلِيـلُ
وهل أردْن يومــًا ميـاه مِجَنَّة ** وهل يَبْدُوَنْ لى شامة وطَفِيلُ
قالت عائشة:
فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال:
(اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية
بن خلف،
كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها
ومدها،
وانقل حماها فاجعلها بالجُحْفَة)
وقد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فأرى في المنام
أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت
بالجحفة.
وبذلك استراح المهاجرون عما كانوا يعانونه من شدة مناخ
المدينة.
فتغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي المتاعب الشاقة للوصول للمستقبل
الباهر للأمة،
والدولة الإسلامية، التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة،
على أسس من الإيمان والتقوى، والإحسان والعدل،
أنظر إلى ما كان يعانيه النبي والأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين
اللهم ارض عنا وعنهم
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا
وأكرم نزلنا ووسع مدخلنا واغسلنا من خطايانا
بالماء والثلج والبرد
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين
وارفع بفضلك رايتي الحق والدين
وصل
اللهم على سيدنا ونبينا وحبيبنا
محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وأقم الصلاة
|
تعليقات
إرسال تعليق