في غزوة فتح مكة
في غزوة فتح مكة المجلس
التاسع عشر :
في غزوة فتح مكة شرَّفها الله عز وجل الحمد لله خلق كل شيء فقدَّره ، وعلم مورد كل مخلوق ومصدره ، وأثبت في أم الكتاب ما أراده وسطَّره ، فلا مُؤَخِّر لما قدَّمه ولا مُقَدِّم لما أخَّره ، ولا ناصر لمن خذله ولا خاذل لمن نصره ، تفرَّد بالملك والبقاء ، والعزة والكبرياء ، فمن نازعه ذلك أحقره ، الواحد الأحد الرب الصمد ، فلا شريك له فيما أبدعه وفطره ، الحي القيوم فما أقومه بشؤون خلقه وأبصره ، العليم الخبير فلا يخفى عليه ما أسرَّه العبد وأضمره ، أحمده على ما أَوْلَى من فضله ويَسَّره . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، قَبِلَ توبة العاصي فعفا عن ذنبه وغفره ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أوضح به سبيل الهداية ونوَّره ، وأزال به ظلمات الشرك وقَتَّرَه ، وفتح عليه مكة فأزال الأصنام من البيت وطهَّره ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام البررة ، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بلغ القمر بدره وسرره ، وسلم تسليما .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (آل عمران102)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
(الأحزاب 71)
وبعد:ـ أيها الأخوة
الأعزاء
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
كما
كان في هذا الشهر المبارك غزوة بدر التي انتصر فيها الإسلام وعلا مناره ، كان
فيه أيضا غزوة فتح مكة البلد الأمين في السنة الثامنة من الهجرة ، فأنقذه الله
بهذا الفتح العظيم من الشرك الأثيم ، وصار بلدا إسلاميا حل فيه التوحيد عن الشرك
، والإيمان عن الكفر ، والإسلام عن الاستكبار ، أُعْلِنَت فيه عبادة الواحد
القهار ، وكُسِرَت فيه أوثان الشرك فما لها بعد ذلك انجبار ، وسبب هذا الفتح
العظيم أنه لما تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في الحديبية في السنة السادسة ، كان مَنْ أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فعل
، فدخلت خُزَاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وكان بين القبيلتين دماء في الجاهلية ،
فانتهزت بنو بكر هذه الهدنة فأغارت على خزاعة وهم آمنون ، وأعانت قريش حلفاءها
بني بكر بالرجال والسلاح سرا على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدم جماعة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما صنعت بنو بكر وإعانة قريش لها
، أما قريش فسقط في أيديهم ورأوا أنهم بفعلهم هذا نقضوا عهدهم , فأرسلوا زعيمهم
أبا
سفيان إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة ، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فلم يَرُدَّ عليه ، ثم كلم أبا
بكر وعمر ليشفعا له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُفلح ، ثم كلم علي بن أبي طالب فلم يفلح أيضا ، فقال له : ما ترى يا
أبا الحسن ؟ قال : ما أرى شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأَجِرْ بين
الناس ، قال : أترى ذلك مُغْنِيًا عني شيئا ؟ قال : لا والله , ولكن ما أجد لك
غيره . ففعل أبو سفيان , ثم رجع إلى مكة فقالت له قريش : ما وراءك ؟ قال : أتيت
محمدا فكلمته فوالله ما رَدَّ علي شيئا , ثم أتيت ابن أبي قحافة وابن الخطاب فلم
أجد خيرا , ثم أتيت عليا فأشار علي بشيء صنعتُه أَجَرْتُ بين الناس , قالوا :
فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويحك , ما زاد الرجل ( يعنون عليا ) أن
لعب بك .
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد أمر أصحابه
بالتَّجَهُّز للقتال , وأخبرهم بما يريد , واستنفر مَنْ حوله من القبائل وقال :
" اللهم خذ الأخبار والعيون عن قريش حتى
نَبْغَتَها في بلادها " , ثم خرج من المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل ,
وولَّى على المدينة عبد الله بن أم مكتوم , ولما كان في أثناء الطريق لقيه في
الْجُحْفَة عمه العباس بأهله وعياله مهاجرا مسلما , وفي مكان يسمى الأبواء لقيه
ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبي أمية ,
وكانا من أشد أعدائه فأسلما فقَبِلَ منهما , وقال في أبي سفيان : " أرجو أن
يكون خَلَفا من حمزة " .
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم مكانا يسمى مَرَّ
الظَّهْرَان قريبا من مكة أمر الجيش فأوقدوا عشرة آلاف نار , وجعل على الحرس عمر
بن الخطاب رضي الله عنه ، وركب العباس بغلة النبي
صلى الله عليه وسلم ليلتمس أحدا يُبَلِّغ قريشا ليخرجوا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فيطلبوا الأمان منه ولا يحصل القتال في مكة البلد الأمين ،
فبينما هو يسير سمع كلام أبي سفيان يقول لبُديل بن ورقاء : ما رأيت كالليلة
نيرانا قط ، فقال بُديْل : هذه خزاعة ، فقال أبو سفيان : خزاعة أقل من ذلك وأذل
، فعرف العباس صوت أبي سفيان فناداه فقال : ما لك أبا الفضل ؟ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، قال : فما
الحيلة ؟ قال العباس : اركب حتى آتي بك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك ، فأتى به النبي
صلى الله عليه وسلم فقال : " ويحك يا
أبا سفيان أما آن أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ " فقال : بأبي أنت
وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! لقد علمت أن لو كان مع الله غيره لأغنى عني . قال
: " أما آن لك أن تعلم أني رسول الله ؟
" فتَلَكَّأ أبو سفيان ، فقال له العباس : ويحك أَسْلِمْ فأَسْلَمَ وشهد
شهادة الحق .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن يوقف أبا
سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى يمر به المسلمون ، فمر به القبائل على
راياتها ما تمر به قبيلة إلا سأل عنها العباس فيخبره فيقول : ما لي ولها ؟ حتى
أقبلت كتيبة لم يُرَ مثلها فقال : من هذه ؟ قال العباس : هؤلاء الأنصار عليهم
سعد بن عُبَادة معه الراية ، فلما حاذاه سعد قال : أبا سفيان اليوم يوم الملحمة
، اليوم تُستحَلُّ الكعبة ، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب وأجَلُّها فيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ورايته مع
الزبير بن العوام ، فلما مر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بأبي سفيان أخبره بما قال سعد فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ( كذب سعد ولكن هذا
يوم يُعَظِّم اللهُ فيه الكعبة ويوم تُكْسَى فيه الكعبة ) (رواه البخاري من قوله : ثم أمر النبي
صلى الله عليه وسلم العباس .) ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن تُؤْخَذَ الراية من سعد وتُدْفع إلى ابنه قيس , ورأى أنها لم تخرج عن سعد خروجا
كاملا إذا صارت على ابنه .
ثم مضى صلى الله عليه وسلم ، وأمر أن تُرْكَز رايته
بالحجون ، ثم دخل مكة فاتحا مُؤَزَّرا منصورا قد طأطأ رأسه تواضعا لله عز وجل
حتى إن جبهته تكاد تمس رحله وهو يقرأ : { إِنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } [
الفتح : 1 ] ، ويُرَجِّعها ، وبعث صلى الله عليه وسلم على إحدى الْمُجَنِّبتين خالدَ
بن الوليد وعلى الأخرى الزبيرَ بن العوام وقال : " من دخل المسجد فهو آمن
ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل بيته وأغلق بابه فهو آمن " ، ثم
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى
المسجد الحرام فطاف به على راحلته ، وكان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم ، فجعل صلى الله عليه وسلم يطعنها بقوس معه ويقول : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81 ] ، { قُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [ سبأ : 49 ] (رواه مسلم) ،
والأصنام تتساقط على وجوهها ، ثم دخل صلى الله عليه
وسلم الكعبة فإذا فيها صور فأمر بها فمُحِيَت ثم صلى فيها ، فلما فرغ دار
فيها وكبر في نواحيها ووحد الله عز وجل ثم وقف على باب الكعبة وقريش تحته
ينتظرون ما يفعل ، فأخذ بعِضادتي الباب
وقال : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وَتَعَظُّمَهَا بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] , يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : " فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم } [ يوسف : 92 ] , اذهبوا فأنتم الطلقاء " هذه القصة من قوله : ثم وقف على باب الكعبة من زاد المعاد وغيره من كتب السيرة . وكلمة الطلقاء وردت في صحيح البخاري في غزوة الطائف ، قال في فتح الباري : والمراد بالطلقاء - جمع طليق - من حصل من النبي صلى الله عليه وسلم المنَّ عليه يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم ).
ولما كان اليوم
الثاني من الفتح قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال : ( إن الله حرم مكة ولم يحرمها
الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن الله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها
شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله
ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها
بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب ) (رواه البخاري) ، ( وكانت الساعة
التي أحلت فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم
من طلوع الشمس إلى صلاة العصر يوم الفتح ) (رواه أحمد) ، ثم (
أقام صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوما يقصر
الصلاة ولم يصم بقية الشهر ) (رواه
البخاري مفرقا) . ؛ لأنه لم ينو قطع
السفر ، أقام ذلك لتوطيد التوحيد ودعائم الإسلام وتثبيت الإيمان ومبايعة الناس ،
وفي الصحيح : عن مجاشع قال : ( أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم بأخي بعد الفتح ليبايعه على الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم : " ذهب أهل الهجرة بما
فيها ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد ) .
وبهذا الفتح
المبين تم نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وعاد بلد الله بلدا إسلاميا
أعلن فيه بتوحيد الله وتصديق رسوله وتحكيم كتابه , وصارت الدولة فيه للمسلمين
واندحر الشرك وتبدد ظلامه , ولله الحمد ، وذلك من فضل الله على عباده إلى يوم
القيامة .
اللهم ارزقنا شكر هذه النعمة العظيمة ، وحَقِّق النصر للأمة الإسلامية كل وقت في كل مكان ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . |
تعليقات
إرسال تعليق