غزوة الأحزاب
غزوة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين
وأشهد ألا إله إلا الله
وأشهد أن نبينا محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
خرج زعماء اليهود من بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم
على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ووعدوهم من
أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش،
وبعد أيام تجمع جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، وقد ترامت الأنباء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد
تعاقدت عليه.
وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
الشوري
قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا. وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك. وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الحظة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا.
ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب
على أكبادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفر للمهاجرين
والأنصار).
وعن أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم
عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأي ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفـر للأنصـار
والمهـاجرة
فقالوا مجيبين له:
نحـن الذيـن بايعـوا محمـداً ** على الجهـاد ما بقيـنا
أبداً
وفيه عن البراء بن عازب قال: رأيته صلى الله
عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى واري عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير
الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصـدقنـا ولا صلينــا
فأنزلن سكينـة علينـا ** وثبت الأقـدام إن لاقينــا إن الألى بغـوا علينـا ** وإن أرادوا فتـنـة أبينـــا
وكان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت
الأكباد،
وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا وقد ربطنا
حجرا من شدة الجوع
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا
هو قد ربط حجرين.
ووقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة،
طعام أهل الخندق
رأي جابر بن عبد الله في النبي
صلى الله عليه وسلم خمصاً شديدًا فذبح بهيمة، وطحنت امرأته صاعاً من شعير،
ثم التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً
أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه
وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت
بُرْمَة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما هو.
وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدي به أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منها التمر، وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثواب. الرسول الله صلى الله عليه وسلم والصخرة قال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءة وأخذ المعول فقال: (بسم الله)، ثم ضرب ضربة، وقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة)، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: (الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن)، ثم ضرب الثالثة، فقال: (بسم الله)، فقطع بقية الحجر، فقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني). (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) (الأحزاب: 22) .
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا
الجيش {وَإِذْ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا
(الأحزاب: 12).
(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ)()النور31
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن
سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً
صلى الله
عليه وآله وسلم عبده ورسوله
أما
بعد
ولما جاء المشركون إلى الخندق كانت المفاجئة
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة
ضعيفة ؛ لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم
بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه
التراب، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور.
فخرجت جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع، وخرج على بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له على بن أبي طالب، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو.
وقد استاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، ففي البخاري عن على عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق:
(ملأ الله عليهم
بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطي حتى غابت الشمس).
وقامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب. قال ابن إسحاق:
كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء
والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو
قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول
الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا
عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن،
وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه
فاقتله.
قال: والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن وقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة.
وانتهي الخبر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: (انطلقوا حتى
تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً
أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس).
فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة،
ونالوا من رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به
العدو وهزم جموعهم، وفَلَّ حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له:
نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي
لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إنما أنت رجل واحد، فَخذِّلْ عنا ما استطعت، فإن الحرب
خدعة)، فذهب من فوره إلى بني قريظة ـ
وكان عشيراً لهم في الجاهلية ـ فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما
بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه
أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان
قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره،
فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم،
قالوا: فما العمل يا نعيم ؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن.
قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم مضي نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك. فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إلى يهود: أنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكُرَاع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم.
وكان المسلمون يدعون الله تعإلى: (اللهم استر عوراتنا وآمن
روعاتنا)، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال:
(اللهم منزل
الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).
وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيراً )[الأحزاب : 9]
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا
وأكرم نزلنا ووسع مدخلنا واغسلنا من خطايانا
بالماء والثلج والبرد
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين
وارفع بفضلك رايتي الحق والدين
وصل
اللهم على سيدنا ونبينا وحبيبنا
محمد صلى
الله عليه وآله وسلم
|
تعليقات
إرسال تعليق