مصيبة موت العلماء


مصيبة موت العلماء
الحمد لله رب العالمين
وأشهد ألا إله إلا الله
وأشهد أن نبينا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيها المسلمون، إن أكبر واعظ هو الموت،
من أراد مؤنسا فالله يكفيه
ومن أراد حجة فالقرآن يكفيه
ومن أراد الغنى فالقناعة تكفيه
ومن أراد واعظا فالموت يكفيه
ومن لم يكفه شيء من هذا
فالنار تكفيه ..
فالموت الذي قدره الله على من شاء من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره، إلا وهو نازل به، وخاضع لسلطانه (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [1] ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين، ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه النبي صلى الله عليه وسلم كيف لا، وقد نعاه إلى نفسه بقوله: (إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ) [2]. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [3]
(فالحياة ألم ! ألم يخفيه أمل ! أمل يحققه عمل ! عمل ينهيه أجل ثم يجزى كل امرئ بما فعل)
فالموت لا مفر منه، فلا ينجو منه ملائكة السماء، ولا ملوك الأرض، ولا أحد من أنس أو جن أو حيوان، ولو كانوا في بطون البروج، وغياهب الحصون (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [4]. ولو نجا أحد !  فأين عاد وثمود؟ وفرعون ذو الأوتاد؟  أين الأكاسرة؟ وأين القياصرة؟ أين الجبابرة والصناديد الأبطال؟ فالموت لا يخشى أحدا، ولا يبقي على أحد، حتى العلماء
والعلماء هم ورثة الأنبياء ، و هم نجوم يهتدى بهم في الظلماء ، و معالم يقتدى بهم في البيداء ، أقامهم الله تعالى حماة للدين ، ينفون عنه تحريف الغالين ، و تأويل الجاهلين ،
و لهذا كان من أعظم المصائب التي يبتلى بها الناس ، و تحرك نفوس الأكياس موت العلماء ، لأن هذا الأخير سبب لرفع العلم النافع ، و انتشار الجهل الناقع.تعالم ما الرزية فقد مال و لا شاة تموت و لا بعير و لكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير
فهذا الحدث الجلل شرط من أشراط الساعة كما قال عليه الصلاة و السلام : (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم و يثبت الجهل ) (5)
و المراد برفعه هنا موت حملته ، فإن العلم لا يرفع إلا بقبض العلماء و بقبضهم يقبض العلم كما في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن الله لا يبقض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد و لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا )(6).
قال النووي رحمه الله : " هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم ليس هو محوه من صدور حفاظه ، و لكن معناه : أن يموت حملته و يتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم فيضلون و يضلون " (7).
أنشد أحمد بن غزال لنفسه
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها و إن أبى عاد في أكنافها التلف
و اثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله : " عليكم بالعلم قبل أن يرفع ، و رفعه هلاك العلماء " (8)
فلنشمر - يا رعاكم الله - إلى تعلم العلم و التوسع فيه قبل ذهاب أهله وويه .قال المناوي رحمه الله في معرض شرحه لحديث نحو الأحاديث المتقدمة : " و فيه حث على اقتباس العلوم الدينية قبل هجوم تلك الأيام الدنيئة الرديئة" (9)
فالله الله في ذهاب العلماء فإن موتهم كسر في جدار الإسلام و عبء ثقيل على أعناق طلبة العلم النجباء
فعن الحسن البصري رحمه الله قال : " كانوا يقولون : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيئ ما اختلف الليل و النهار "(10)
فإذا فقدت الأمة الإسلامية عالماً جليلاً فذاً، قلَّ أن يوجد مثله، صاحب التصانيف النافعة، والاجتهادات في النوازل الواقعة، الذي جمع بين الرواية والدراية، والتدقيق والترجيح والتمحيص،
إن موت العالم ثُلْمَةٌ خطيرة في بناء الأمة الإسلامية، ولابد أن تبذل الجهود وتتضافر الهمم على محاولة تعويض بعض ما سُلب من العلم بموت العالم،
والأمة الإسلامية في مجموعها تتعرض لمخاطر جمة من الدعاة على أبواب جهنم الذين مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، وإنما يتدثرون بالبدعِ والفتاوى الباطلة، والقولِ على الله بغير علم، والكذبِ على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، هذا ظاهرهم، أما باطنهم فالكفر والنفاق وقلوب الشياطين التي تهدف إلى هدم الدين.
وإنما يقف العلماء في وجه هذه المخاطر ببيان الحق، والجهاد في الدفاع عنه، وتعليمه الناس، ونشر العلم بالكتاب والسنة، والقيام في الناس بالقسط والعدل والإنصاف،
وموت العلماء يفتح أبواب الخطر، ويضاعف المسئولية على الأمة في مجموعها، وعلى علمائها وطلاب العلم والدعاة على وجه الخصوص، في التمسكِ بما كان عليه سلفهم من العلماء، والدعوةِ إلى الله -سبحانه- بما كان يدعو إليه مَنْ سبقهم مِنْ الحق والهدى والإنصاف بين الناس، وإقامة معالم الدين، ونشر العلم الذي تركه هؤلاء العلماء، والانتفاع بهديهم وسلوكهم المشهود والمقروء والمسموع.والحمد لله أن علم هؤلاء العلماء لا يموت بموتهم، بل لا يزال محفوظاً لما حواه من نور الكتاب والسنة الذي وعد الله بحفظه.وموت العلماء موعظة وتذكير للأمة جميعاً بقرب الرحيل، وقرب انتهاء الدنيا، فإن الدنيا قد آذنت بصُرمِ وولت حذَّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء يتصابَّها صاحبها، وخراب الدنيا بموت عالم أضعاف خرابها بموت غيره، فالاستعداد ليوم الرحيل واجب، والعمل ليوم المعاد متحتم.بالأمس ودعنا أحدنا فمن يكون عليه الكرة غداً؟
يا نفس توبي فان الموت قد حانا *** واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أمــــــا ترين المنــايا كيف تلقـطنا *** لقـطـــــاً و تلحـق أخرانـا بأولانا
في كـــــل يوم لنـا ميت نشــيعه *** نــــرى بمصـرعه آثــــار موتــانـا
يا نفـس مالي وللأمـوال أتركها *** خلفي وأخـرج مـــــن دنيـاي عريانا
أبعـــد خمســين قـد قضيتها لعباً *** قــد آن أن تقتصـري قـد آن قد آنا
ما بالنـا نتعامى عـــــن مصــائرنا *** نـنـسـى بغـفلتنا من ليـس ينسانـا
نزداد حرصـا وهذا الدهر يزجرنا *** كان زاجـرنا بالحـرص أغرانـا
أيـــــن الملوك وأبنــاء الملوك ومن *** كانت تخـر له الأذقـان إذعانـا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا *** مسـتبدلـين من الاوطان اوطانا
خلـــوا مدائـن كان العز مفرشـها *** واستفرشــوا حفرا غبرا وقيعانا
يا راكضاً في ميـادين الهوى مرحاً *** ورافلا في ثـيـاب الغي نشــوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب *** يكفيك ما قد مضى قد كانا ما كانا
نسأل الله أن يرحمنا، وأن يغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، وإنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصائبنا، واخلف لنا خيراً منها.
تقدم أن العلم يقبض بقبض العلماء، وفي الحقيقة أنه قد مضى من أمة محمد علماء أجلاء، خيرهم وأفضلهم على الإطلاق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان لنا معزى فعزاؤنا برسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، سيد ولد آدم، فخير معلم هو عليه الصلاة والسلام، فمن أراد أن يتذكر مصيبته فليتعز بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جرى عليه ما يجري على البشر، حتى قالت ابنته فاطمة لـأنس بعد أن أتى من دفنه عليه الصلاة والسلام: يا أنس ! أطابت نفسك أن تحثو على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ ولكن (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا )[11]، مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهم خير قرن، وخير أمة أخرجت للناس، مات الصحابي الجليل أبي بن كعب الذي كان سيداً من السادات، وكان أعلم الناس بالقراءات كما قال عمر: (أقرؤنا أبيُّ) ،و مات الحَبر ابن مسعود الذي قال عن نفسه: (والله! ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين أنزلت وفيمن أنزلت، فوالله! لو كنت أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطايا لأتيه)، كل ذلك قال والصحابة لا يردون عليه بشيء، احتراماً لعلمه وتقديراً لقدره، حتى أن عمر نظر إليه وقال: (كنيف ملئ فقهاً رضي الله تعالى عنه). مات كذلك أعلم الصحابة بالفرائض: زيد بن ثابت العالم الجليل الذكي التقي، تعلم لغة قوم في خمسة عشر يوماً لما أمره رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم السريانية، مات وذهب يشيع جنازته عبد الله بن عباس الذي كان في يوم من الأيام يأخذ بلجام الدابة ويبركها له، فيقول زيد بن ثابت : (يا ابن عم رسول الله! دع عنك لجام الدابة، فيقول: لا، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وبعظمائنا وبكبرائنا، ويأخذ له بلجام الدابة ويبركها له)، فينزل زيد لـابن عباس ويقبل رأسه ويقول: (هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام)، تواضع متبادل من الطرفين، كل يعطي الآخر حقه الذي هو له، ولا يبخسه حقه، مات زيد بن ثابت وذهب ابن عباس يشيع جنازته؛ فدفن زيد وأهيل عليه التراب، فقال ابن عباس وهو ينظر إلى التراب الذي يهال عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد دفن اليوم علمٌ كثير). ولما مات حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعلمه رسول الله بأسماء أهل النفاق، كما في أحاديث الفتن، لما أدركته الوفاة التي كتبت على العباد، ما كان يزكي نفسه بأنه ليس من أهل النفاق، لا يزكيها ولا يثني عليها، وكذلك من حوله، ينظر إليهم حذيفة فيقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن يكون ممساي في النار) هكذا يقول حذيفة تواضعاً منه رضي الله عنه وأرضاه. إلى غير هؤلاء العلماء الكرام من التابعين كـابن المسيب وعروة وقتادة ، ثم من بعدهم كـمالك والشافعي وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم من العلماء، ثم غير هؤلاء كثير، جمٌ غفير: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ )[12]. كل هؤلاء الكرام لم يكونوا معصومين من الأخطاء، كلهم جهلوا مسائل وعلموا مسائل، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )[13]، كل الصحابة والتابعين وأتباع التابعين منهم من أفتى وأصاب في فتواه، ومنهم من أفتى فتاوى جانبت الصواب، أما نحن أهل الإتباع فلا يسعنا أن نتابع أحداً على مسألة أخطأ فيها أياً كان شأنه بعد ظهور الدليل من كتاب الله ومن سنة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا
وأكرم نزلنا ووسع مدخلنا واغسلنا من خطايانا
بالماء والثلج والبرد
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين
وارفع بفضلك رايتي الحق والدين
وصل اللهم على سيدنا ونبينا وحبيبنا
محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وأقم الصلاة
(1)(العنكبوت:57)
(2)(الزمر:30)
(3)(المؤمنون : 16)
(4)(النساء:78)
(5)(متفق عليه . انظر الفتح 1/213 ،)
(6)(متفق عليه )
(7)(شرح مسلم 1/223)
(8)(رواه الدارمي 1/54)
(9)(فيض القدير 2/444)
(10)( رواه الدرامي )
(11)(الأحزاب:38)
(12)(الجمعة:8)
(13)(يوسف:76)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكريمه صلى الله عليه وسلم

الدعاء للطفل

خذي منى العفو تستديمي مودتي