في غزوة بدر




في غزوة بدر المجلس الثامن عشر
الحمد لله القوي المتين ، القاهر الظاهر الملك الحق المبين ، لا يخفى على سمعه خفيف الأنين ، ولا يعزب عن بصره حركات الجنين ، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين ، وقضى القضاء بحكمته وهو أحكم الحاكمين ، أحمده حمد الشاكرين , وأسأله معونة الصابرين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على العالمين , المنصور ببدر بالملائكة المنزلين , صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين , وسلم تسليما .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (آل عمران102)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب 71)
وبعد:ـ أيها الأخوة الأعزاء
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
في هذا الشهر المبارك نصر الله المسلمين في غزوة بدر الكبرى على أعدائهم المشركين ، وسَمَّى ذلك اليوم يوم الفرقان ؛ لأنه سبحانه فرق فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله والمؤمنين وخذل الكفار المشركين , كان ذلك في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة , وكان سبب هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان قد توجه من الشام إلى مكة بِعِيرِ قريش , فدعا أصحابه إلى الخروج إليه لأخذ العير ؛ لأن قريشا حَرْبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وأصحابه ليس بينه وبينهم عهد , وقد أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقاموا ضد دعوتهم دعوة الحق , فكانوا مستحقين لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعيرهم , فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا على فرسين وسبعين بعيرا يعتقبونها , منهم سبعون رجلا من المهاجرين , والباقون من الأنصار , يقصدون العير لا يريدون الحرب ، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ويتم ما أراد ، فإن أبا سفيان علم بهم فبعث صارخا إلى قريش يستنجدهم ليحموا عيرهم وترك الطريق المعتادة وسلك ساحل البحر فنجا أما قريش فإنهم لما جاءهم الصارخ خرجوا بأشرافهم عن بكرة أبيهم في نحو ألف رجل معهم مائة فرس وسبعمائة بعير { بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ الأنفال : 47 ] ، ومعهم القيان يغنين بهجاء المسلمين ، فلما علم أبو سفيان بخروجهم بعث إليهم يخبرهم بنجاته ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب ، فأبوا ذلك وقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نبلغ بدرا ونقيم فيه ثلاثا ، ننحر الْجَزور ، ونطعم الطعام , ونسقي الخمر , وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا .
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما علم بخروج قريش جمع من معه من الصحابة فاستشارهم وقال : " إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين : إما العير أو الجيش " ، فقام المقداد بن الأسود وكان من المهاجرين وقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله عز وجل فوالله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك , وقام سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس فقال : يا رسول الله لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم , وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت ، وصِلْ حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالهم ما شئت ، وأعطنا منها ما شئت , وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت , وما أمرت فيه من أمر فأمرنا فيه تبع لأمرك , فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البِرَك من غَمدان لنسيرن معك , ولئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غدا , إننا لصبر عند الحرب ، صُدْقٌ عند اللقاء ، ولعل الله يُرِيكَ منا ما تقر به عينك .
فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع من كلام المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ، وقال : " سيروا وأبشروا فوالله لَكَأَنِّي أنظر إلى مصارع القوم " ، فسار النبي صلى الله عليه وسلم بجنود الرحمن حتى نزلوا أدنى ماء من مياه بدر ، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزل أَنْزَلَكَهُ الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونُغَوِّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون ، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي ونهض هذه القصة أعني نزولهم أدنى ماء من مياه بدر وإشارة الحباب ضعيفة جدا سندا ومتنا . فنزل بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة وقريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة ، وأنزل الله تلك الليلة مطرا كان على المشركين وابلا شديدا ووحلا زلقا يمنعهم من التقدم ، وكان على المسلمين طَلًّا طهرهم ووطَّأ لهم الأرض وشد الرمل ومهد المنزل وثبت الأقدام .
وبنى المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا على تل مُشْرِف على ميدان الحرب ، ثم نزل صلى الله عليه وسلم من العريش فسوى صفوف أصحابه ، ومشى في موضع المعركة ، وجعل يشير بيده إلى مصارع المشركين ومحلات قتلهم ، يقول : " هذا مصرع فلان إن شاء الله ، هذا مصرع فلان " ، فما جاوز أحد منهم موضع إشارته ، ثم نظر صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وإلى قريش فقال : " اللهم هذه قريش جاءت بفخرها وخيلائها وخيلها تُحَادُّك وتكذب رسولك ، اللهم نصرك الذي وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تُعْبَد ، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعْبَد " ، واستنصر المسلمون ربهم واستغاثوه فاستجاب لهم : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }{ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } [ الأنفال : 12 - 14 ] ثم تقابل الجمعان , وحَمِيَ الوطيس واستدارت رَحَي الحرب , ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، ومعه أبو بكر وسعد بن معاذ يحرسانه ، فما زال صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويستنصره ويستغيثه ، فأغفى إغفاءة ثم خرج يقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] ، وحَرَّضَ أصحابه على القتال وقال : " والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقْتَل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة " ، فقام عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن فقال : يا رسول الله جنةً عرضها السماوات والأرض ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " ، قال : بَخٍ بَخٍ يا رسول الله ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء , لئن حَيِيتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، ثم ألقى التمرات وقاتل حتى قُتِلَ رضي الله عنه .
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من تراب أو حصا فرمى بها القوم فأصابت أعينهم ، فما منهم واحد إلا ملأت عينه وشُغِلوا بالتراب في أعينهم , آيةً من آيات الله عز وجل , فهُزِمَ جمعُ المشركين , وولوا الأدبار , واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فقتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين ، أما القتلى فأُلْقِيَ منهم أربعة وعشرون رجلا من صناديدهم في قليب من قلبان بدر , منهم أبو جهل وشيبة بن ربيعة وأخوه عتبة وابنه الوليد بن عتبة , عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الكعبة فدعا على هؤلاء الأربعة قال : " فأشهد بالله لقد رأيتُهم صرعى قد غَيَّرتهم الشمسُ » ( رواه البخاري  ), وكان يوما حارا , وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقُذِفوا في طَويٍّ من أطواء بدر خبيث مُخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشُدَّ عليها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شَفَة الرَّكِي فجعل يُناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أَيَسُرُّكم أنكم أطعتم الله.
ورسوله , فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ " قال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " .
وأما الأسرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة فيهم , وكان سعد بن معاذ قد ساءه أمرهم وقال : كانت أول وقعة أوقعها الله في المشركين وكان الإثخان في الحرب أحب إلي من استبقاء الرجال . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه , وتمكنني من فلان - يعني قريبا له - فأضرب عنقه , فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها .
وقال أبو بكر رضي الله عنه : هم بنو العم والعشيرة وأرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار , فعسى الله أن يهديهم للإسلام ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفدية ، فكان أكثرهم يفتدي بالمال من أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم ، ومنهم من افتدى بتعليم صبيان أهل المدينة الكتابة والقراءة ، ومنهم من كان فداؤه إطلاق مأسور عند قريش من المسلمين , ومنهم من قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا لشدة أذيته , ومنهم مَنْ مَنَّ عليه بدون فداء للمصلحة .
هذه غزوة بدر انتصرت فيها فئة قليلة عن فئة كثيرة { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ }
[ آل عمران : 13 ] , انتصرت الفئة القليلة لأنها قائمة بدين الله تقاتل لإعلاء كلمته والدفاع عن دينه فنصرها الله عز وجل ، فقوموا بدينكم أيها المسلمون لِتُنْصَروا على أعدائكم , واصبروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .
اللهم انصرنا بالإسلام واجعلنا من أنصاره والدعاة إليه ، وثبتنا عليه إلى أن نلقاك ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكريمه صلى الله عليه وسلم

الدعاء للطفل

خذي منى العفو تستديمي مودتي