خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، يَلْتَقِي نَسَبُهَا بِنَسَبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وُلِدَتْ فِي مَكَّةَ قَبْلَ مَوْلِدِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِخَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، نَشَأَتْ فِي بَيْتِ جَاهٍ وَطَهَارَةٍ وَسُلُوكٍ، وَسُمِّيَتْ بِالطَّاهِرَةِ،
اشْتُهِرَتْ خَدِيجَةُ بِرَجَاحَةِ
عَقْلِهَا وَكَرِيمِ أَصْلِهَا؛ وَمَا إِنْ بَلَغَتْ سِنَّ الزَّوَاجِ تَزَوَّجَهَا
أَبُو هَالَةَ وَعَاشَتْ مَعَهُ قَلِيلًا وَرُزِقَتْ مِنْهُ بِهِنْدٍ وَهَالَةَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ
تَارِكًا لَهَا ثَرْوَةً ضَخْمَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِعَتِيقِ بْنِ عَائِذٍ
ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْهَا، وَرُزِقَتْ مِنْهُ بِهِنْدٍ.
كَانَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تُزَاوِلُ
التِّجَارَةَ وَعُرِفَتْ بِحَزْمِهَا وَدِقَّتِهَا، وَكَانَتْ تَسْتَأْجِرُ
رِجَالًا كَمَيْسَرَةَ وَغَيْرِهِ بَيْنَ
مَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ، وَلَمَّا سَمِعَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ تَجْهِيزِهَا تِجَارَةً لِلشَّامِ أَشَارَ عَلَى
ابْنِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ- بِعَرْضِ نَفْسِهِ لِلتِّجَارَةِ مَعَهَا؛ فَوَافَقَتْ
وَأَعْطَتْهُ ضِعْفَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ، وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ
غُلَامَهَا مَيْسَرَةَ، وَأَوْصَتْهُ بِخِدْمَتِهِ وَأَلَّا يُخَالِفَ
أَمْرَهُ، وَأَنْ يُرَاقِبَ أَحْوَالَهُ.
وَحَانَتِ الرِّحْلَةُ
التِّجَارِيَّةُ إِلَى الشَّامِ وَرَافَقَ مَيْسَرَةُ مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيهَا، وَهُوَ
يُتَابِعُ بَعْضَ مَعَالِمِ نُبُوَّتِهِ؛ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَا بُصْرَى
الشَّامِ نَزَلَا تَحْتَ شَجَرَةٍ بِقُرْبِ صَوْمَعَةِ الرَّاهِبِ نَسْطُورَ، فَجَاءَهُمَا وَقَالَ
لِمَيْسَرَةَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ.
قَالَ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إِلَّا نَبِيٌّ، ثُمَّ قَالَ
لِمَيْسَرَةَ: أَفِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَا تُفَارِقُهُ، قَالَ:
هُوَ هُوَ، وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَا لَيْتَنِي
أُدْرِكُهُ حِينَ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ. وَمِمَّا رَآهُ مَيْسَرَةُ أَنَّهُ
إِذَا كَانَتِ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِ الرَّسُولَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-مِنَ الشَّمْسِ.
وَلَمَّا بَاعُوا
تِجَارَتَهُمْ رَابِحِينَ أَضْعَافًا رَجَعُوا مَكَّةَ قَافِلِينَ فَسُرَّتْ
خَدِيجَةُ مِمَّا رَأَتْ وَسَمِعَتْهُ مِنْ مَيْسَرَةَ؛ فَأَضْعَفَتْ لِمُحَمَّدٍ
ضِعْفَ مَا سَمَّتْ لَهُ. وَجَاءَتْهَا فِكْرَةُ الزَّوَاجِ مِنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْجَبَةً
بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَمَسَتْهَا فِيهِ؛ فَتَزَوَّجَهَا -عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَعُمْرُهُ حِينَئِذٍ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ عَامًا
وَهِيَ فِي الْأَرْبَعِينَ.
لَقَدْ كَانَتْ لِهَذِهِ
الطَّاهِرَةِ الْمُبَارَكَةِ خَصَائِصُ قَلَّ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِهَا؛ فَهِيَ أَوَّلُ مَنْ
آمَنَ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَصَدَّقَهُ؛ فَكَانَتْ مِنَ السَّابِقِينَ
الْأَوَّلِينَ دَاخِلَةً فِي نُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ الْمَادِحَةِ لِصَحَابَتِهِ
-رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-.
وَأُمُّنَا خَدِيجَةُ هِيَ خَيْرُ
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ؛ فَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ):
"خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ
نِسَائِهَا خَدِيجَةُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
كَمَا أَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَ بِهَا النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلَمْ يَتَزَوَّجْ
عَلَيْهَا وَلَا تَسَرَّى؛ تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "لَمْ يَتَزَوَّجِ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ"، وَكُلُّ أَوْلَادِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا إِلَّا
إِبْرَاهِيمَ؛ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-.
وَخَدِيجَةُ الْحُبُّ الَّذِي رُزِقَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ رَبِّهِ؛ فَقَدْ
وَرَدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا- أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
"إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا".
الزَّوْجَةُ الْوَفِيَّةُ
لَمْ تَكُنْ يَوْمًا سَبَبًا فِي إِغْضَابِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، يَقُولُ ابْنُ
الْقَيِّمِ: "مِنْ خَوَاصِّ خَدِيجَةَ
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّهَا لَمْ تَسُوؤْهُ
قَطُّ، وَلَمْ تُغَاضِبْهُ، وَلَمْ يَنَلْهَا مِنْهُ إِيلَاءٌ وَلَا عَتْبٌ قَطُّ
وَلَا هَجْرٌ، وَكَفَى بِهَذِهِ مَنْقَبَةً، وَمِنْ خَوَاصِّهَا
أَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ آمَنَتْ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ".
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى
جَلَالَةِ قَدْرِ هَذِهِ الْعَظِيمَةِ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ خَيْرَ أَهْلِ
السَّمَاءِ؛ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى خَيْرِ أَهْلِ
الْأَرْضِ؛ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَنْقُلَ إِلَيْهَا سَلَامَ صَاحِبِ الْعَظَمَةِ
وَالْكِبْرِيَاءِ؛ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ- قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ
مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ
فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ
فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ وَلَا نَصَبَ".
هَذِهِ الْفَضَائِلُ
وَالْمَحَاسِنُ -عِبَادَ اللَّهِ- جَعَلَتْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-
يَحْفَظُ لَهَا حُسْنَ عَهْدِهَا وَوُدِّهَا، وَيَرْعَى مَكَانَتَهَا حَيَّةً
وَمَيِّتَةً، وَيُكْرِمُ مَعَارِفَهَا؛ فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ -أُخْتُ خَدِيجَةَ- عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ
خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَالَةَ...".
وَتَقُولُ أَيْضًا
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-:) كَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ
يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا
قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ،
فَيَقُولُ: "إِنَّهَا كَانَتْ،
وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ
الَّتِي حَظِيَتْ بِهَا خَدِيجَةُ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا- وَالْمَكَانَةُ الَّتِي تَبَوَّأَتْهَا فِي قَلْبِ
النَّبِيِّ الْكَرِيمِ أَثَارَتْ غَيْرَةَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-
كَمَا تَحَدَّثَتْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهَا قَالَتْ ):
"مَا غِرْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ
إِيَّاهَا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: خَدِيجَةُ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا- أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً فَقَطْ؛ بَلْ كَانَتِ
الْأُمَّ الْحَنُونَ وَالزَّوْجَةَ الْوَدُودَ وَالرُّكْنَ الشَّدِيدَ
وَالدَّاعِمَ الْكَرِيمَ وَالسَّنَدَ الظَّهِيرَ؛ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ
وَاضِحَةٌ فِي تَضْحِيَاتٍ جَسِيمَةٍ وَإِمْكَانِيَّاتٍ عَظِيمَةٍ فِي سَبِيلِ
زَوْجِهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَدَعْوَتِهِ.
فَمِنَ
الْإِمْكَانِيَّاتِ الَّتِي سَخَّرَتْهَا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَقْتُهَا وَحَظُّهَا مِنْهُ؛ فَكَمْ
غَابَ عَنْهَا قَبْلَ بِعْثَتِهِ وَبَعْدَهَا؛ فَقَبْلَ بِعْثَتِهِ كَانَ يَغِيبُ
الْأَيَّامَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ فِي غَارِ حِرَاءَ يَتَعَبَّدُ اللَّهَ ثُمَّ
يَعُودُ إِلَيْهَا، وَكَانَتِ الصَّابِرَةَ الْمُقَدِّرَةَ، وَبَعْدَهَا شُغْلُهُ
عَنْهَا بِدَعْوَةِ النَّاسِ لِلْإِسْلَامِ وَمُنَابَذَةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛
فَإِذَا عَادَ لِبَيْتِهِ عَادَ مَهْمُومًا أَسِفًا مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ
وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، وَرُبَّمَا عَادَ وَقَدْ آذَاهُ قَوْمُهُ؛ فَيَأْوِي
إِلَيْهَا فَتُلْقِي عَلَيْهِ بِحَنَانِهَا وَتَضُمُّهُ بِعَطْفِهَا فَتُهَدِّئُ
مِنْ رَوْعِهِ.
وَمِنْ تَضْحِيَاتِهَا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ طَعَامَهُ
وَشَرَابَهُ وَحَاجَتَهُ مِنْ بَيْتِهَا وَحَتَّى الْغَارِ، تَقْطَعُ مَسَافَاتٍ
تَزِيدُ عَنْ خَمْسَةِ كِيلُو وَأَرْبَعِمِائَةِ مِتْرٍ، وَتَصْعَدُ الْجَبَلَ
الَّذِي يَبْلُغُ ارْتِفَاعُهُ ثَمَانِمِائَةٍ
وَسِتَّةً وَسِتِّينَ مِتْرًا فَوْقَ سَطْحِ الْبَحْرِ؛ كُلُّ ذَلِكَ دُونَمَا
كَلَلٍ أَوْ مَلَلٍ أَوْ تَضَجُّرٍ أَوْ تَبَرُّمٍ.
وَمِنْ أَهَمِّ
الْمَوَاقِفِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَأَرْوَعِ الصُّوَرِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي
سَخَّرَتْهَا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- مُؤَازَرَتُهَا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ عَوْدَتِهِ مِنَ
الْغَارِ فَزِعًا يَقُولُ: "زَمِّلُونِي"، وَأَخْبَرَهَا بِمَا كَانَ
مِنْهُ وَهُوَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ، فَرَدَّتْ رَاجِحَةُ الْعَقْلِ وَصَائِبَةُ
الرَّأْيِ: "كَلَّا، أَبْشِرْ،
فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ،
وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"، ثُمَّ
انْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ
بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ تَسْأَلُهُ فَأَخْبَرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا رَآهُ فَقَالَ
وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى.
وَمِنَ
الْإِمْكَانِيَّاتِ -أَيْضًا-؛ بَذْلُهَا السَّخِيُّ؛ فَلَقَدْ سَخَّرَتْ مَالَهَا
وَثَرَاءَهَا الْوَاسِعَ فِي خِدْمَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْجَاعِ
دَعْوَتِهِ؛ فَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَفُكُّ مِنْ مَالِهَا الْغَارِمَ وَالْأَسِيرَ،
وَيُعْطِي الضَّعِيفَ، وَمَنْ لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وَصَاحِبَ
الْعِيَالِ وَالثِّقْلِ؛ قَالَ الزُّهْرِيُّ:
"بَلَغَنَا أَنَّ خَدِيجَةَ أَنْفَقَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعِينَ أَلْفًا،
وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا".
وَلَيْسَتْ هِيَ مَنْ
نَقَلَ لَنَا هَذَا الْوَفَاءَ؛ بَلْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ مَنِ اعْتَرَفَ
بِهَذَا الْفَضْلِ قَائِلًا) قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي
النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ
حَرَمَنِي النَّاسُ(
وَهَلْ هُنَاكَ أَعْظَمُ
دَعْمًا وَلَا أَنْصَعُ وَفَاءً مِنْ أَنْ تَحْرُسَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا
وَتُعَرِّضَ نَفْسَهَا لِلْمَخَاطِرِ وَتَجْعَلَ نَفْسَهَا دُونَهُ! نَعَمْ
فَأُمُّنَا خَدِيجَةُ دَفَعَهَا الْحُبُّ وَحُسْنُ الْوَفَاءِ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ تَحْمِيَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلًا وَنَهَارًا؛
بَلْ كَانَتْ تَحْرُسُهُ خَوْفًا مِنْ غَدْرِ قُرَيْشٍ بِهِ مِنْ تَضْحِيَاتِ
الْعَفِيفَةِ الطَّاهِرَةِ مَوْقِفُهَا مِنْ حِصَارِ الشِّعْبِ؛ فَلَمْ تُؤْثِرِ
الْوَفِيَّةُ نَفْسَهَا عَنْهُ -عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِتَعِيشَ فِي دَارِهَا مُتْرَفَةَ الْعَيْشِ
آمِنَةَ الْجَنَابِ وَهِيَ قَادِرَةٌ؛ فَعَشِيرَتُهَا بَنُو أَسَدٍ أَهْلُ قُوَّةٍ
وَمَنَعَةٍ، بَلْ لَحِقَتْ بِزَوْجِهَا وَرَفِيقِ دَرْبِهَا تُشَارِكُهُ
الْمَصِيرَ حُلْوَهُ وَمُرَّهُ؛ وَفِي عُمْرِهَا الْمُتَجَاوِزِ السِّتِّينَ شَفِيعٌ
لَهَا؛ إِذْ كَانَتْ بِحَاجَةٍ لِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا.
هَذِهِ الصُّوَرُ الْجَمَالِيَّةُ
مِنَ اهْتِمَامِهَا أَثَّرَتْ فِي بَعْضِ قَوْمِهَا، فَكَيْفَ لِامْرَأَةٍ كَانَتْ
تُغْدِقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَيَكُونُ هَذَا جَزَاءَهَا! مِمَّا حَمَلَ
بَعْضَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ سِرًّا، وَمَا
كَانَتْ لِتَسْتَأْثِرَ نَفْسَهَا بِهَذَا الْعَطَاءِ؛ بَلْ كَانَتْ تُوَزِّعُهُ
عَلَى مَنْ مَعَهَا.
قَدَّمَتْ هَذِهِ
التَّضْحِيَةَ حَتَّى لَا يُصَابَ جَنَابُ زَوْجِهَا أَوْ تَضْعُفَ هِمَّتُهُ؛
لَقَدْ سَانَدَتْهُ فِي كُلِّ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ، فَكَانَ قَلْبُهَا لَهُ
وَفَاءً، وَحَدِيثُهَا لَهُ بَلْسَمًا، وَقُرْبُهَا مِنْهُ سَكِينَةً، وَبَيْتُهَا
لَهُ أُنْسًا.
فَأَيُّ اصْطِفَاءٍ
إِلَهِيٍّ كَرِيمٍ اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْمَرْأَةَ
كَامِلَةَ الْأَوْصَافِ، عَرِيقَةَ النُّعُوتِ، ذَاتَ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ
وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالسَّرِيرَةِ النَّقِيَّةِ، الشَّهْمَةَ
الْكَرِيمَةَ؛ مَنِ اخْتَارَهَا اللَّهُ عَرُوسًا لِنَبِيِّهِ وَمُشِيرًا،
وَسَنَدًا وَظَهِيرًا، وَشَرَّفَهَا وَحْدَهَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ بِحُضُورِ
أَوَّلِ الْوَحْيِ؛ فَكَانَتْ أُولَى الْمُؤْمِنَاتِ الصَّابِرَاتِ الْبَاذِلَاتِ؛
فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا!
عِبَادَ اللَّهِ: وَمَا فَتِئَ النَّبِيُّ
-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَسْتَرْجِعُ
عَافِيَتَهُ بَعْدَ مَوْتِ نَصِيرِهِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى نَزَلَ
الْمَوْتُ لِيَأْخُذَ رُوحَ النَّصِيرَةِ الْوَفِيَّةِ فِي الْعَاشِرِ مِنْ
رَمَضَانَ سَنَةَ عَشَرَةٍ مِنَ الْبَعْثَةِ، بَعْدَ حِصَارِ الشِّعْبِ
وَعُمْرُهَا خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ عَامًا، وَدَفَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ
فِي مَقْبَرَةِ الْحَجُونِ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا؛ إِذْ لَمْ تَكُنْ صَلَاةُ
الْجِنَازَةِ مَشْرُوعَةً حِينَئِذٍ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ خَلَّفَ مَوْتُ
هَذِهِ الصِّدِّيقَةِ الصَّابِرَةِ وَالْمُجَاهِدَةِ آلَامًا كَبِيرَةً، وَفَتَحَ
جِرَاحًا غَائِرَةً فِي حَيَاتِهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَقَدْ كَانَ رَحِيلُهَا مُصَابًا جَلَلًا عَلَى
جَانِبِهِ الْمَعْنَوِيِّ وَالدَّعْوِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ؛ كَيْفَ لَا! وَهِيَ
مَنْ سَجَّلَتْ أَسْمَى صُوَرِ التَّضْحِيَةِ، وَرَسَمَتْ أَبْلَغَ لَوْحَاتِ
الْوَفَاءِ؛ خَلَّدَتْ صَفَحَاتٍ مُشْرِقَةً بِالْعَطَاءِ، وَمَوَاقِفَ
مُشَرِّفَةً بِالْوَفَاءِ.
تَلْكُمُ هِيَ قُدْوَةُ
الْمُؤْمِنَاتِ وَأُسْوَةُ الصَّالِحَاتِ، السَّيِّدَةُ الْكَامِلَةُ خَدِيجَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-؛ )مَنْ وَصَفَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ
إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ
بِنْتُ خُوَيْلِدٍ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَأَيْنَ زَوْجَاتُ
وَاقِعِنَا مِنْ وَفَاءِ خَدِيجَةَ وَتَضْحِيَاتِهَا! وَأَيْنَ نِسَاءُ
حَاضِرِنَا مِنْ نُصْرَتِهَا وَثَبَاتِهَا! أَيْنَ تِلْكَ الزَّوْجَاتُ اللَّاتِي
تَرَكْنَ أَزْوَاجَهُنَّ لِبَلَاءٍ نَزَلَ بِهِمْ أَوْ تَخَلَّيْنَ عَنْهُمْ
لِضُرٍّ مَسَّهُمْ! فَلَمْ يَعُودُوا فِي أَنْظَارِهِنَّ صَالِحِينَ أَنْ
يَكُونُوا أَزْوَاجًا، إِنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ مَنْ أَقَمْنَ الدُّنْيَا وَلَمْ
يُقْعِدْنَهَا لِأَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ يَوْمًا انْشَغَلُوا عَنْهُنَّ فِي
مَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ أَوْ إِنْسَانِيَّةٍ؛ فَفَاتَ بِانْشِغَالِهِمْ
عَنْهُنَّ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ شَخْصِيَّةٌ؛ فَجُنَّ جُنُونُهُنَّ
وَرَأَيْنَ فِي أَزْوَاجِهِنَّ عَدَمَ الْكَفَاءَةِ وَرُبَّمَا طَلَبْنَ
الطَّلَاقَ.
صَحِيحٌ أَنَّ هَذَا
الطِّرَازَ يَصْعُبُ تَكْرَارُهُ، وَنَمُوذَجٌ مُسْتَحِيلٌ عَوْدَتُهُ؛ لَكِنْ
حَسْبَ نِسَائِنَا أَنْ يَجْعَلْنَ مِنْ مِثْلِ خَدِيجَةَ قُدْوَةً فِي الصَّلَاحِ
وَالْعِفَّةِ، وَأُسْوَةً فِي الْوَفَاءِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَمِثَالًا
لِلزَّوْجَةِ الْمُخْلِصَةِ الْمُتَفَانِيَةِ الصَّابِرَةِ.
هَذَا صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْمَصِيرِ.
اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا
مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَامًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق