الجمعة، 3 يوليو 2015

في وصف الجنة جعلنا الله من أهلها




في وصف الجنة جعلنا الله من أهلها
المجلس الثالث والعشرون :
في وصف الجنة جعلنا الله من أهلها
الحمد لله مبلِّغ الراجي فوق مأموله ، ومعطي السائل زيادة على سُؤْله ، المنان على التائب بصفحه وقبوله ، خلق الإنسان وأنشأ دارا لحلوله ، وجعل الدنيا مرحلة لنزوله ، فتوطنها من لم يعرف شرف الأخرى لخموله ، فأخذ منها كارها قبل بلوغ مأموله ، ولم يُغْنه ما كسبه من مال وولد حتى انهزم في فلوله , أوما ترى غربان البين تنوح على طلوله ، أما الموفَّق فعرف غرورها فلم ينخدع بمثوله ، وسابق إلى مغفرة من الله وجنة عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للذين آمنوا بالله ورسوله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عارف بالدليل وأصوله ، وأشهد أن محمدا عنده ورسوله ، ما تردد النسيم بين شماله وجنوبه ودبوره وقبوله ، صلى الله عليه وعلى أبي بكر صاحبه في سفره وحلوله ، وعلى عمر حامي الإسلام بسيف لا يخاف من فلوله ، وعلى عثمان الصابر على البلاء حين نزوله ، وعلى علي الماضي بشجاعته قبل أن يصول بنصوله ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما امتد الدهر بطوله وسلم تسليما .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (آل عمران102)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب 71)

وبعد:ـ أيها الأخوة الأعزاء
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، قال الله تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } [ محمد : 15 ] ، وقال تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 25 ] ، وقال تعالى : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا
}{ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ }{ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا }{ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا }{ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا }{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ }{ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا }{ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } [ الإنسان : 14 - 20 ] .
وقال تعالى : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ }{ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً }{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ }{ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ }{ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ }{ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ }{ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 10 - 16 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] ، وقال تعالى : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا } [ الإنسان : 13 ] ، وقال تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } [ الإنسان : 21 ] ، وقال تعالى : { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [ الرحمن : 76 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ }{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }{ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ }{ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ }{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان : 51 - 55 ] ، وقال تعالى : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ الزخرف : 70 ] .
وقال تعالى : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ }{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }{ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 56 - 58 ] ، وقال تعالى : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }{ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } [ الرحمن : 70 - 72 ] ، وقال تعالى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] ، وقال تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس : 26 ] ، فالحسنى هي الجنة لأنه لا دار أحسن منها , والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم ، رزقنا الله ذلك بِمَنِّهِ وكرمه ، والآيات في وصف الجنة ونعيمها وسرورها وأنسها وحبورها كثيرة جدا .
وأما الأحاديث : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قلنا : يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال : " لَبِنَة ذهب ولبنة فضة ، ومِلاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ) (رواه أحمد والترمذي) ، وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حَذَّاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يصطبُّها صاحبها ، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما يحضرنكم , ولقد ذُكِرَ لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة , وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام " (رواه مسلم) ، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون ) (متفق عليه) ، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة ، فإن الجنة لا خطر لها ) (أي : لا مثل لها ولا عديل) ، ( هي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في مَحَلَّة عليه بهية " , قالوا : يا رسول الله نحن المشمرون لها . قال : " قولوا : إن شاء الله " ، فقال القوم : إن شاء الله ) (رواه ابن ماجه والبيهقي وابن حبان في صحيحه ، وإسناده ضعيف .) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن )
(رواه البخاري) ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أهل الجنة يتراءَوْن أهل الغُرَف فوقهم كما تتراءَوْن الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " . قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم . قال : " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين ) (رواه البخاري) ، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في الجنة غرفا يُرَى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام ) (أخرجه الطبراني , رواه أحمد بزيادة : ( وألان الكلام ).
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوّفة ، طولها في السماء ستون ميلا ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضا ) (متفق عليه) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر , ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة , ثم هم بعد ذلك منازل لا يتغوَّطون , ولا يبولون , ولا يمتخِطون , ولا يبصُقون , أمشاطهم الذهب , ومجامرهم الألُوَّة , ورشحهم المسك , أخلاقهم على خَلْق رجل واحد على طول أبيهم آدم ستون ذراعا ) (رواه مسلم) ، وفي رواية : ( لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم قلب واحد ، يسبِّحون الله بكرة وعشيا ) ، وفي رواية : ( وأزواجهم الحور العين ) .
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفُلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون " قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : " جُشَاءٌ ورَشْحٌ كرشح المسك ، يُلْهَمُون التسبيح والتحميد كما يُلْهَمُون النَّفَس ) (رواه مسلم) ، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفس محمد بيده إن أحدهم ( يعني أهل الجنة ) لَيُعْطَى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة ، تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كرشح المسك فَيَضْمُرُ بطنه ) (أخرجه أحمد والنسائي ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب : رواته محتج بهم في الصحيح ، ورواه الطبراني بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم) . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لَقَابُ قوسِ أحدِكم أو موضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحا وَلَنَصِيفُهَا ( يعني الخمار ) خير من الدنيا وما فيها ) (رواه البخاري) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في الجنة لسُوقا يأتونها كل جمعة فتهب رياح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم ، فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم فيقولون لهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا ,
فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا ) (رواه مسلم) ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ ينادي مناد : إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا ، وذلك قول الله عز وجل : { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله عز وجل : أَعْدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، واقرؤوا إن شئتم : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] (الحديث متفق عليه) . وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن يُنْجِزَكُمُوهُ ، فيقولون : ما هو ؟ ألم يُثَقِّلْ موازيننا ويبيِّض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار ؟ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه , فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم منه ) (رواه مسلم) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ( أن الله يقول لأهل الجنة : " أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) (رواه مسلم) .
اللهم ارزقنا الخلد في جنانك , وأحِل علينا فيها رضوانك , وارزقنا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ولا فتنة مُضِلَّة .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .



الأربعاء، 1 يوليو 2015

في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر





في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر
المجلس الثاني والعشرون :
في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر
الحمد لله عالم السر والجهر ، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر ، مُحْصي قطرات الماء وهو يجري في النهر ، وباعث ظلام الليل ينسخه نور الفجر ، موفِّر الثواب للعابدين ومكمِّل الأجر ، العالم بخائنة الأعين وخافية الصدر ، شمل برزقه جميع خلقه فلم يترك النمل في الرمل ولا الفرخ في الوكر ، أغنى وأفقر وبحكمته وقوع الغنى والفقر ، وفضَّل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر ، ليلة القدر خير من ألف شهر ، أحمده حمدا لا منتهى لعدده ، وأشكره شكرا يستجلب المزيد من مدده ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نبع الماء من بين أصابع يده صلى الله عليه وسلم ، وعلى أبي بكر صاحبه في رخائه وشدائده ، وعلى عمر بن الخطاب كهف الإسلام وعَضُده ، وعلى عثمان جامع كتاب الله وموحِّده ، وعلى علي كافي الحروب وشجعانها بمفرده ، وعلى آله وأصحابه المحسن كل منهم في عمله ومقصده ، وسلم تسليما .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (آل عمران102)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب 71)

وبعد:ـ أيها الأخوة الأعزاء
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
في هذه العشر المباركة ليلة القدر التي شرَّفها الله على غيرها ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها ، أشاد الله بفضلها في كتابه المبين فقال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ }{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }{ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ }{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } [ الدخان : 3 - 8 ] ، وصفها الله سبحانه بأنها مباركة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها ، ومن بركتها أن هذا القرآن المبارك أُنْزِل فيها ، ووصفها سبحانه بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم ، يعني يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبَة ما هو كائن من أمر الله سبحانه في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وغير ذلك من كل أمر حكيم من أوامر الله المحكمة المتقنة ، التي ليس فيها خلل ولا نقص ولا سفه ولا باطل ذلك تقدير العزيز العليم .
وقال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ }{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }{ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ }{ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [ سورة القدر : 1 - 5 ] . القدر بمعنى الشرف والتعظيم ، أو بمعنى التقدير والقضاء ؛ لأن ليلة القدر شريفة عظيمة يقدِّر الله فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة ، { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يعني في الفضل والشرف وكثرة الثواب والأجر ، ولذلك كان مَنْ قامها إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه ، { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } الملائكة عباد من عباد الله قائمون بعبادته ليلا ونهارا { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ }{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 19 - 20 ] ، يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة ، ( والروح ) هو جبريل عليه السلام خصه بالذكر لشرفه وفضله . { سَلَامٌ هِيَ } يعني أن ليلة القدر ليلة
سلام للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يُعتق فيها من النار ، ويسلم من عذابها ، { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } يعني أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به .
وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر :
* الفضيلة الأولى : أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
* الفضيلة الثانية : ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } .
* الفضيلة الثالثة : أنها خير من ألف شهر .
* الفضيلة الرابعة : أن الملائكة تتنزل فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة .
* الفضيلة الخامسة : أنها سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل .
* الفضيلة السادسة : أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تُتْلَى إلى يوم القيامة .
* ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ) (متفق عليه) ، فقوله : ( إيمانا واحتسابا ) يعني إيمانا بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها ، واحتسابا للأجر وطلب الثواب ، وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر
وليلة القدر في رمضان ؛ لأن الله أنزل القرآن فيها ، وقد أخبر أن إنزاله في شهر رمضان ، قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } ، وقال : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] ، فبهذا تعيَّن أن تكون ليلة القدر في رمضان ، وهي موجودة في الأمم وفي هذه الأمة إلى يوم القيامة لما رُوِيَ ( عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أهي في رمضان أم في غيره ؟ قال : " بل هي في رمضان " . قال : تكون مع الأنبياء ما كانوا ، فإذا قُبِضُوا رُفِعَت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : " بل هي إلى يوم القيامة ) ( الحديث ) (رواه أحمد والنسائي والحاكم ، وقال : حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه , ونقل عن الذهبي أنه أقره ، والله أعلم .) ، لكنْ فضلها وأجرها يختص والله أعلم بهذه الأمة كما اختصت هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل ، ولله الحمد .
وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تَحَرَّوْا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) (متفق عليه) ، وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) (رواه البخاري) ، وهي في السبع الأواخر أقرب ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ( أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم قد تواطأت ( يعني اتفقت ) في السبع الأواخر ، فمن كان مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا في السبع الأواخر ) (متفق عليه) ، ولمسلم عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر ( يعني ليلة القدر ) ، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبع البواقي ، وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال : والله إني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، هي ليلة سبع وعشرين ) (رواه مسلم) ، ولا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام ، بل تتنقل فتكون في عام ليلة سبع وعشرين مثلا ، وفي عام آخر
ليلة خمس وعشرين تبعا لمشيئة الله وحكمته , ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( التمسوها في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى ) (رواه البخاري) ، قال في فتح الباري : أرجح الأقوال أنها في وتر من العشر الأخير ، وأنها تنتقل ا هـ .
وقد أخفى سبحانه علمها على العباد رحمة بهم ؛ ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزدادوا قربة من الله وثوابا ، وأخفاها اختبارا لهم أيضا ليتبين بذلك من كان جادا في طلبها حريصا عليها ممن كان كسلان متهاونا ، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به , وربما يُظْهِر الله علمها لبعض العباد بأمارات وعلامات يراها كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم علامتها أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين ، فنزل المطر في تلك الليلة فسجد في صلاة الصبح في ماء وطين .
إخواني : ليلة القدر يُفْتَح فيها الباب , ويُقَرَّب فيها الأحباب , ويُسْمَع الخطاب , ويرد الجواب ، ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر ، ليلة القدر خير من ألف شهر ، فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها فهذا أوان الطلب ، واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب .
تولَّى العمر في سهوٍ ... وفي لهو وفي خسرِ
فيا ضيعةَ ما أنفقْـ ... ـتُ في الأيام من عمري
وما لي في الذي ضَيَّعْـ ... ـتُ من عمري من عذرِ
فما أغفلنا عن وا ... جبات الحمد والشكرِ
أمَا قد خصنا اللـ ... ـه بشهر أيما شهرِ
بشهر أنزل الرحمـ ... ـن فيه أشرف الذكرِ
وهل يشبهه شهرٌ ... وفيه ليلة القدرِ
فكم من خبر صحَّ ... بما فيها من الخيرِ
رَوَيْنَا عن ثقاتٍ ... أنها تُطْلَب في الوِترِ
فطُوبى لامرئ يطلبها ... في هذه العشرِ
ففيها تنزل الأملا ... ك حتى مطلع الذُّخْرِ
وقد قال سلام هِـ ... ـيَ حتى مطلع الفجرِ
ألا فادَّخِروها إنَّـ ... ـها من أنْفَسِ الذُّخْرِ
فكم من معتَقٍ فيها ... من النار ولا يدري
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر ، وأدرك ليلة القدر ، وفاز بالثواب الجزيل والأجر .
اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات ، الهاربين عن المنكرات ، الآمنين في الغرفات ، مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات ، اللهم أعذنا من مُضِلَّات الفتن ، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك ، واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك ، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الثلاثاء، 30 يونيو 2015

في فضل العشر الأخير من رمضان




في فضل العشر الأخير من رمضان
المجلس الحادي والعشرون :
في فضل العشر الأخير من رمضان
الحمد لله المتفرد بالجلال والبقاء ، والعظمة والكبرياء ، والعز الذي لا يرام ، الرب الصمد ، الملك الذي لا يحتاج إلى أحد ، العلي عن مداناة الأوهام ، الجليل العظيم الذي لا تدركه العقول والأفهام ، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ، فكل من سواه مفتقر إليه على الدوام ، وفق من شاء فآمن به واستقام ، ثم وجد لذة مناجاة مولاه فهجر لذيذ المنام ، وصحب رفقة تتجافى جنوبهم عن المضاجع رغبة في المقام ، فلو رأيتهم وقد سارت قوافلهم في حندس الظلام ، فواحد يسأل العفو عن زلته ، وآخر يشكو ما يجد من لوعته ، وآخر شغله ذكره عن مسألته ، فسبحان من أيقظهم والناس نيام , وتبارك الذي غفر وعفا , وستر وكفى , وأسبل على الكافة جميع الإنعام ، أحمده على نِعَمِهِ الجسام ، وأشكره وأسأله حفظ نعمة الإسلام .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، عز من اعتز به فلا يضام ، وذل من تكبر عن طاعته ولقي الآثام ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بَيَّنَ الحلال والحرام ، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق ، الذي هو في الغار خير رفيق ، وعلى عمر بن الخطاب ، الذي وُفِّقَ للصواب ، وعلى عثمان مصابر البَلا ، ومن نال الشهادة العظمى من أيدي العدا ، وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب وعلى جميع الصحبة والتابعين لهم بإحسان ما غاب في الأفق غارب ، وسلم تسليما .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (آل عمران102)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب 71)

وبعد:ـ أيها الأخوة الأعزاء
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
لقد نزل بكم عشر رمضان الأخيرة فيها الخيرات والأجور الكثيرة ، فيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة :
* فمن خصائصها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها ، فعن عائشة رضي الله عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )
(رواه مسلم) ، وعنها : قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العَشرُ شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ) (متفق عليه) ، وعنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم ، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر ) (رواه الإمام أحمد) .
ففي هذه الأحاديث دليل على فضيلة هذه العشر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيه أكثر مما يجتهد في غيره ، وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيي ليله بالقيام والقراءة والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه لشرف هذه الليالي وطلبا لليلة القدر التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وظاهر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يحيي الليل كله في عبادة ربه من الذكر والقراءة والصلاة والاستعداد لذلك والسحور وغيرها ، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما أعلمه صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح ؛ لأن إحياء الليل الثابت في العشر يكون بالقيام وغيره من أنواع العبادة ، والذي نفته إحياء الليل بالقيام فقط ، والله أعلم
ومما يدل على فضيلة العشر من هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله فيه للصلاة والذكر حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة ، فإنها فرصة العمر وغنيمة لمن وفقه الله عز وجل ، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله ، فما هي إلا ليال معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة ، وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن ترى كثيرا من المسلمين يُمْضُون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم ، يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل , فإذا جاء وقت القيام ناموا عنه وفوَّتوا على أنفسهم خيرا كثيرا لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبدا ، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصده إياهم عن سبيل الله وإغوائه لهم ، قال الله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، والعاقل لا يتخذ الشيطان وليا من دون الله مع علمه بعداوته له ؛ فإن ذلك مناف للعقل والإيمان قال الله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } [ الكهف : 50 ] , وقال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] .
* ومن خصائص هذه العشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها ، والاعتكاف : لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل ، وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال الله عز وجل : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }
[ البقرة : 187 ] ، واعتكف النبي صلى الله عليه وسلم واعتكف أصحابه معه وبعده ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط ، ثم قال : " إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم أعتكف العشر الأوسط " ، ثم أتيت فقيل لي : " إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ) (رواه مسلم) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده ) (متفق عليه) ، وعنها أيضا قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف عشرين يوما ) (رواه البخاري) ، وعن أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاما ، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ) (رواه أحمد والترمذي وصححه) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه فاستأذنته عائشة فأذن لها فضربت لها خِبَاء ، وسألت حفصةُ عائشةَ أن تستأذن لها ففعلت فضربت خباء ، فلما رأت ذلك زينب أمرت بخباء ، فضُرِبَ لها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأخبية قال : " ما هذا ؟ " قالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " آلْبِرَّ أردن بهذا ؟ انزعوها فلا أراها " ، فنُزِعَتْ وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال ) (من البخاري ومسلم في روايات) ، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أن الاعتكاف مسنون .
والمقصود بالاعتكاف : انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده طلبا لفضله وثوابه وإدراك ليلة القدر ، ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والقراءة والصلاة والعبادة ، وأن يتجنب ما لا يَعنيه من حديث الدنيا ، ولا بأس أن يتحدث قليلا بحديث مباح مع أهله أو غيرهم لمصلحة ، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب ( أي : لأنصرف إلى بيتي ) فقام النبي صلى الله عليه وسلم معي ) ( الحديث ) (متفق عليه) .
ويحرم على المعتكف الجماع ومقدِّماته من التقبيل واللمس لشهوة لقوله تعالى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }
[ البقرة : 187 ] ، وأما خروجه من المسجد فإن كان ببعض بدنه فلا بأس به لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يُخْرِج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض ) (رواه البخاري) ، وفي رواية : ( كانت ترجِّل رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه ) ، وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام :
* الأول : الخروج لأمر لا بد منه طبعا أو شرعا كقضاء حاجة البول والغائط والوضوء الواجب والغسل الواجب لجنابة أو غيرها والأكل والشرب ، فهذا جائز إذا لم يمكن فعله في المسجد ، فإن أمكن فعله في المسجد فلا ، مثل أن يكون في المسجد حمام يمكنه أن يقضي حاجته فيه وأن يغتسل فيه ، أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب فلا يخرج حينئذ لعدم الحاجة إليه .
* الثاني : الخروج لأمر طاعة لا تجب عليه كعيادة مريض وشهود جنازة ونحو ذلك ، فلا يفعله إلا أن يشترط ذلك في ابتداء اعتكافه ، مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعوده أو يخشى من موته ، فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجه لذلك فلا بأس به .
* الثالث : الخروج لأمر ينافي الاعتكاف كالخروج للبيع والشراء وجماع أهله ومباشرتهم ونحو ذلك ، فلا يفعله لا بشرط ولا بغير شرط ؛ لأنه يناقض الاعتكاف وينافي المقصود منه .
* ومن خصائص هذه العشر أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، فاعرفوا رحمكم الله لهذه العشر فضلها , ولا تضيِّعوها فوقتها ثمين وخيرها ظاهر مبين .
اللهم وفِّقْنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا ، وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .




إسلام عمر بن الخطاب

  إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم عمر بعد تسعة وثلاثين رجلا ، وثلاث وعشرين امرأة ، وقيل : أسلم بعد أربعين رجلا ، وإحدى عشرة امرأة ، و...